مكانته العلمية ومراسلاته

أمضى الشّيخ زهرة حياته مغتربا عن موطنه الأصليّ جادو- جبل نفوسة مُتعلِّما ومُعلِّما، بل وواصل اغترابه عن وطنه بعد بلوغ أشُدِّه، للقيام بالمهمّة العلميّة الّتي أوكلت إليه، وهي تولية رئاسة التّدريس في الجامع الكبير بجربة كما مرّ، بكلّ ما يعنيه هذا التّكليف من جهد ومسؤوليّات([1])، ولم يحصل ذلك لولا ما ظهر عليه من علم وفضل، وما كشف عنه من قدرات في التّوجيه وكفاءة في الأداء.

ولعلّ مجيء الشّيخ بعد سلسلة من أهل العلم والفضل كالشّيخ عبد الله السّدويكشي، والشّيخ محمّد بن عمر بن أبي ستة، والشّيخين المصعبيّين يوسف بن محمّد وابنه محمّد بن يوسف.. لعلّ مجيء الشّيخ بعد أولئك وغيرهم وما تركوه من مؤلّفات وحواشٍ وأعمال جليلة؛ جعله يتّجه صوب التّدريس ومسؤوليّاته، وما يستتبع ذلك من توجيه وخطابة وتدوين وإفتاء؛ ولذلك لم يترك لنا مؤلّفا خاصّا، وإن أمضى حياته في نسخ كتب العلم، وكتابة بعض الحواشي عليها، مع الحرص على تدوين مسائل أهل العلم وأجوبتهم.

ولعلّنا نلمس في هذا المسلك أيضا بعض التّواضع، وإلّا فقد ذكره شيخه عيسى بن أبي القاسم الباروني في جواب لرسالة بعثها إليه الشّيخ سعيد، فقال: «إلى المكرّم الأفضل السّيد الأمثل علم الأعلام وبدر التّمام قطب دائرة الأفهام أعني به الوليّ الصّالح عمّنا الشّيخ سعيد بن عيسى البروني...»([2])، كما ذكره الشّيخ قاسم بن سليمان الشّمّاخي في رسالة فقال: «إلى الشيّخ الإمام العمدة الهمام شيخ عصره ووحيد دهره أبي عثمان سعيد البروني...»([3])، ويذكره أيضا تلميذه الشّيخ سعيد ابن تعاريت فيقول: «والبارونيّون فيهم الشّيخ المتفنّن في العلوم المنقولة والمعقولة ملاذ العباد شيخ مشايخنا أبو عثمان سعيد بن عيسى الباروني أدام الله إكرامه»([4])، وأحيانا ينقل عنه آراءه في مشايخ العلم، فمن ذلك قوله: «وسمعت من شيخي أبي عثمان سعيد بن عيسى الباروني أنّ كتابة الشّيخ سليمان على شرح الجهالات أبلغ من كتابة ابن عمّه المحشِّي وأدقّ»([5]).

ونعته كاتب وصّيته لحفيده أحمد، الشّيخ عمرو بن زكريّاء المصعبي، بــ «العالم المحقِّق والنّحرير المدقِّق عالم زمانه، وعمدة وقته وأوانه شيخنا أبو عثمان سيّدي الشّيخ سعيد بن عيسى البروني»([6]).

ولقد كانت تأتيه أسئلة علميّة من هنا وهناك فيجيب عليها، ومن ذلك جوابه حول مسألة في العقود ممضاة باسمه، وبعدها نجد توقيع شيخه، قائلا: «الحمد لله وبعد، فقد تأمّلت في الجواب الصّادر من الشّيخ العلّامة بيمناه، فألفيته صحيحا لموافقته للنّصّ الصّريح، وبه أجيب...عيسى بن أبي القاسم الباروني»([7])، ومثل هذه الموافقة من شيخه نجدها عقب جواب له آخر عن مسألة في الحبس([8]).

ولعلّ من أهمّ ما تتميّز به مكتبته ما نجده في ثنايا الكثير من نسخها من تدوين لأجوبة المشايخ، وجلّها بخطِّه، وكذا ما نجده فيها من مجاميع الأسئلة والأجوبة استقلالاً، وهذا يدلّنا ربّما على أبرز اهتمامات الشّيخ الّتي كانت تشغله، وهذا بحكم تولّيه الرّئاسة العلميّة والمشيخة في الجامع الكبير.

لكنّ الشّيء اللّافت هو أنّنا لا نجد في المكتبة رسائل أصليّة؛ تستفتيه في القضايا الدّينيّة، وهذا بحكم منصبه في الرّئاسة، وقد تولاّه لعقود، وكذا بحكم منزلته العلميّة الّتي اشتهر بها، ما عدا أربع رسالات؛ فالأولى من محمّد بن علي الباروني، حين كان في وكالة الجاموس بمصر، وفيها أخبار عن الوكالة وأحوال التّعليم ومشايخ الأزهر، واستفتاء في بعض المسائل، وكذا تبليغ سلام بعض مَن كان هناك([9])، والثّانية من قاسم بن سليمان الشّمّاخي في مسألة منطقيّة([10])، وأخرى من مجهول، وفيها استفتاء عن مسألة في البيوع، وفي ظهر الرّسالة فوائد فقهيّة، نقلا عن شارح النّيل([11])، وأخرى من أحمد بن الطّيب بن محمّد بن السلام، وهي موجّهة إلى مولانا العلّامة سعيد، وفيها سلام إليه، وما قصدنا الجزيرة إلّا لأجله([12]).

ومجرّد أربعة رسائل تصل إلى الشّيخ سعيد.. هذا شيء قليل جدّا، ولا يكاد يُذكر وغير معقول، ولا تمدّنا بصورة واضحة عنه؛ لذلك فنحتمل أمرين؛ فإمّا أنّ غيرها من الرّسائل محفوظ في مكان ما.. فمن المهمّ جدّاً اكتشاف ذلك والوصول إليه، وإمّا أنّها قد ضاعت بسبب أو بآخر.. لا غير! ونرجو أن تكون الأولى؛ لما في ذلك من فائدة توثيقيّة لا تخفى، ولاسيّما في إبراز دوره الاجتماعيّ؛ من حلّ المسائل الّتي تشغل النّاس وفكّ نزاعاتهم وخصوماتهم، وكذا تواصله مع السّلطة في تونس، والقضايا الّتي كانت بينه وبينها بحكم منصبه في رئاسة التّعليم في أكبر جوامع جربة، وبذلك نعرف بوضوح أكثر كيف برزت شخصيّته العلميّة الفكريّة والاجتماعيّة السّياسيّة في كلّ ذلك.

هذه بعض من ملامح سيرة الشّيخ، والّتي زوّدتنا بها الوثائق في مكتبته، وهو أيضا -كما تفيد المصادر- قد «قضى حياته مُدرِّسا ومصلحاً اجتماعيّاً يرشد النّاس في المساجد، وفي الولائم والمآتم والمواسم والأعياد، كان خطيبا بمسجد جامع الشّيخ بحومة السّوق. إثر صلاة الجمعة يجتمع حوله العلماء يستفسرونه في مسائل عديدة، ويحلّ لهم المشكلات، وكان حاكم الجزيرة بن عياد يحضر دروسه، ويصلّي معه الجمعة. ولمكانته العلميّة كان أعيان الجزيرة يزورون منزله في الأعياد، يقدِّمون له التّهاني، فكان الزّعيم الرّوحيّ للجزيرة»([13]).

 

([1]) من المهمّ جدّا البحث والتّحقيق في حيثيّات مهمّة رئاسة التّدريس وضوابطها، وما يرتبط بها من شروط يجب توفّرها في الشّخص المتصدّر لهذا المنصب، والمعايير المرعيّة في ذلك، خصوصا في جامع في مقام الجامع الكبير.

([2]) ينظر: مجموع أسئلة وأجوبة لأجلّة مشايخ، بخطّ سعيد بن عيسى الباروني، برقم: 247، في المكتبة، ص84.

([3]) ينظر: رسالته إلى الشّيخ سعيد، برمز: رب33، في المكتبة.

([4]) رسالة في تاريخ جربة (مصدر سابق)، ص35.

([5]) رسالة في تاريخ جربة (مصدر سابق)، ص82.

([6]) وصيّة الشّيخ سعيد الباروني لحفيده أحمد، مطلع الوصيّة.

([7]) ينظر: مجموع أسئلة وأجوبة لأجلّة مشايخ، بخطّ سعيد بن عيسى الباروني، برقم: 247، ص42-43.

([8]) ينظر: نفسه، ص44- 45.

([9]) ينظر: محمّد البروني، رسالة إلى الشّيخ سعيد البروني، برمز: رب14، في المكتبة.

([10]) ينظر: رسالته إلى الشّيخ سعيد، برمز: رب33، في المكتبة.

([11]) ينظر: مجهول، رسالة إلى سعيد بن عيسى البروني، برمز: رب22، في المكتبة.

([12]) ينظر: أحمد بن الطّيب بن محمّد بن السّلام، رسالة إلى سعيد، برمز: رب23، في المكتبة.

([13]) جزيرة جربة في موكب التّاريخ (مصدر سابق)، ص112.