تاريخ المكتبة وترجمة المؤسس

المكتبة البارونيّة بجربة

هي مكتبة عائليّة خاصّة أسّسها أبو عثمان سعيد بن عيسى بن يعقوب الباروني الفسّاطوي . وهو عالم اباضيّ من جبل نفوسة بليبيا ، ولد حوالي سنة 1188/ 1775 وتوفّي سنة 1281/1865. يرجع تاريخ تأسيسها إلى سنة 1235/ 1819 عندما استقرّ هذا العالم بجزبرة جربة كمدرّس بالجامع الكبير بعد قضاء عشرين سنة بالقاهرة بين الدّراسة بالجامع الأزهر والتّدريس بوكالة الجاموس وهي وقف الإباضيّة بحي طولون حيث نسخ جلّ المخطوطات ثم اقتنى مخطوطات مكتبة ابن عمّه الشّيخ موسى بن علي الباروني النّفوسي. تولّى رعايتها والإشراف عليها من بعده ابنه العلاّمة الشّيخ علي الباروني وحفيده الشّيخ يوسف بن علي الباروني ثم واصل المحافظة عليها و تنميتها الشّيخ أمحمد بن يوسف الباروني ثم ابنه الشّيخ يوسف بن أمحمّد الباروني الّذي بنى لها سنة 1966 مقرّا خاصّا وأخرجها من محلّ سكناه حتّى يتمكّن الباحثون من الاطّلاع على أهمّ المخطوطات من كتب الإباضيّة وغيرها من المذاهب الإسلاميّة .

واصل رعاية المكتبة وادارتها الشّيخ سعيد بن يوسف الباروني بداية من سنة 1982 فقام بإعادة فهرستها بطريقة علميّة بالتّعاون مع مؤسّسة بيت الحكمة والمكتبة الوطنيّة التّونسيّة . وبعد مساع  دامت ثلاثة عقود للّتعريف بمخزون المكتبة من المخطوطات عبر المشاركة في ندوات اقليميّة تمكّن من بناء مقرّ جديد للمكتبة بمدينة حومة السّوق جربة بدعم من جلالة السّلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان رحمه الله.

تمهيد عن الوجود البارونيّ في جربة:

وجود العائلة البارونيّة في جزيرة جربة سبق انتقال الشّيخ إليها فهو يعود إلى قرون خلت. ذكر الشّيخ سالم بن يعقوب علماء من هذه العائلة تولّوا التّدريس في مدرسة الجامع الكبير من بينهم: الشّيخ أبو يحي زكرياء بن أبي يحي الباروني، والشّيخ محمد بن زكرياء الباروني (997هـ/ 1589م)، ومنهم أبو القاسم بن زكرياء الباروني (ق11-12هـ/ 16-17م)([1]). وفي رسالة إخوانيّة([2]) من إبراهيم بن عبد الله الشّمّاخي النّفوسيّ جواباً عن رسالة من أهل عمان، على عهد أبي عبد الله محمّد بن عمر أبي ستّة الجربيّ (بعد 1050هـ/ 1641م وقبل 1088هـ/ 1677م)، ذكر جملة من المشايخ البارونيّين، وهم : الشّيخ أبو الصّبر أيّوب بن الفقيه محمّد الباروني وابن عمّه الشّيخ أيّوب بن يوسف الباروني وابن عمّهما الشّيخ العالم المدرّس الخطيب بجامع حومة السّوق بجربة الفصيح البليغ أبو عبد الله محمّد بن أحمد الباروني النّفوسيّ، والشّيخ أبو بكر بن عيسى الباروني([3]).

وفي رسالة موجّهة إلى الوزير مصطفى دنقزلي، في شأن نظارة جامع الشّيخ الكائن بحومة السّوق، وأحقِّيتها للبارونيّين.. تذكير بأوامر رسميّة سالفة في هذه النّظارة، وأوّلها أمرٌ من حسين باي يرجع إلى سنة 1123هـ/ 1711م، وفيه تضمين ولاية سليمان بن محمّد الباروني([4])، وقد جُدِّد الأمر له أربع مرّات بعد ذلك، وآخرها سنة 1176هـ/ 1763م، ثم انتقل الأمر إلى ابنه محمّد بن سليمان الباروني([5])، بأمر من علي بن حسين باي سنة 1179هـ/ 1766م، ولا يخفى أنّ هذه الأحقيّة نفسها لا تمنح -عادة- أوّل الأمر إلاّ لمن هو أصيل المكان أو له وجود سابق مُعتبر فيه، وجاء من بعده ابنه الشّيخ الأكمل العالم الأفضل أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان الباروني .كان مدرّسا بجامع الشّيخ الواقع بين حومتي والغ والقشعيين و المنسوب لعائلة بن جلود، وخطيبا بجامع الشّيخ بحومة السّوق جربة...([6]).

 

([1]) هؤلاء ممّن ذكرهم الشّيخ سالم بن يعقوب ضمن المدرّسين بالجامع الكبير، وإن كان ذكراً يخلو من التّوثيق التاّريخيّ المطلوب، ينظر: تاريخ جزيرة جربة ومدارسها العلميّة ص121 وما بعدها، وهنا نقترح دراسة الوجود الباروني في جربة وأسبابه.. بداية ومسيرة.

([2]) الرّسالة غير مؤرّخة وقد ذكر فيها الإمام سلطان بن سيف بن مالك بن بلعرب، الّذي كان إماما على عمان بين (1050-1091هـكما ذكر فيها المحشِّي محمد بن عمر أبو ستّة، وقد توفّي سنة 1088 م.

([3]) ينظر: إبراهيم بن عبد الله الشمّاخي النّفوسي، جواب لأهل عمان، برقم:280 في المكتبة، ص12 وما بعدها.

([4]) ينظر الرّسالة، برمز: رب9، في المكتبة، ويبدو أنّه ابن لمحمّد بن أحمد الباروني الخطيب بجامع السّوق، وقد مرّ ذكره في الأعلى، والشّيخ سليمان ذكره سعيد بن تعاريت فقال: ومنهم الشّيخ الأكمل العلاّمة سليمان بن محمّد الباروني الوالغي كان علاّمة زمانه، وقد مدحه الشيخ عمر التلاتي من مصر بقصيدة يرثيه بها، ولعلّه أخذ عنه، وله أجوبة في الأحكام وفتاوي، سعيد بن الحاج علي بن حمزة بن تعاريت، رسالة في تاريخ جربة (مخطوط مصوّر)، مكتبة جمعيّة أبي إسحاق إبراهيم لخدمة التّراث، ص98.

([5]) وصفه سعيد بن تعاريت، فقال: ومنهم ابنه العلاّمة الأكمل الشّيخ محمّد بن سليمان الباروني عالم فائق، ومسكنه بمنزل أبيه بحومة والغ. ( المصدر السّابق نفسه )

([6]) المصدر نفسه.

هذا وقد ذكر عيسى بن أبي القاسم في رسالته الإخوانيّة الّتي أجاب فيها على قصيدة أهل عمان ورسالتهم جملة من المشايخ البارونيين، ويبدو أنّهم كانوا يتردّدون بين جبل نفوسة وجربة، وهي مؤرّخة في ربيع الأوّل 1178هـ/ 1764م، أي على عهد العلاّمة الشّيخ يوسف بن محمّد المصعبي، وهم: الشّيخ أبو القاسم بن عمرو الباروني، وأخوه الشّيخ صالح بن عمرو الباروني، والفاضل المدرّس محمّد بن سليمان الباروني، وأخوه الشّيخ أحمد بن سليمان الباروني، والشّيخ يونس بن محمّد الباروني، وأخوه الشّيخ أيّوب بن محمّد الباروني، والشّيخ عبد العزيز بن أيّوب الباروني، والشّيخ صالح بن إبراهيم الباروني، والشّيخ أبو القاسم بن أيّوب الباروني، والفاضل عمرو بن علي الباروني، والفاضل محمّد بن إبراهيم الباروني([1]).

ومرّة أخرى تصدر الأوامر السّامية ولا تقف في حدود بيان الأحقّية في إمامة الجامعٍ، بل تذهب أبعد من ذلك، حين تدعو إلى مراعاة أولاد الوليّ الصّالح أبي يحي زكرياء بن إبراهيم الباروني([2]) واحترامهم وتوصي خيرا بزاويتهم، والأوامر -هذه المرّة- صادرة عن المشير أحمد باشا باي، لمن تحت سلطته من الولاة والقادة وغيرهم سنة 1262ه/ 1846م([3]). وهذا ما يشيد بمكانة العائلة البارونيّة في جربة وصلتها الحسنة بولاة الأمور.

ففي مثل هذا الحضور الجليّ للبارونيين في جربة([4])، وفي مثل هذه الأوامر الرّسميّة السّامية السّابقة على وجوده والّتي واكبته؛ عاش الشّيخ سعيد بن عيسى الباروني في جزيرة جربة، نزيلاً فيها وقد ترك موطنه الأصليّ، وقبل أن نواصل مع مسيرة حياته، نسجِّل أنّ المصادر تحدّثت عن نشأته في جبل نفوسة حديثاً عاماً؛ فلم تبيّن  فيه كيف كانت مسيرته العلميّة ومشايخه ، ولا كيف كانت صلاته الاجتماعيّة في بلدته هناك وما الّذي دفعه إلى الاغتراب في مصر وهكذا.

 

([1]) ينظر: عيسى بن أبي القاسم الباروني، رسالة إلى أهل عمان، برقم:321 في المكتبة، ص16 وما بعدها.

([2]) عرّفه الشّيخ سليمان الباروني في رسالته إلى أبي اليقظان فقال: هو الإمام الكبير أبو يحي زكرياء بن إبراهيم ابن الإمام الأكبر أبي هارون موسى الباروني. وهو الغاية القصوى في العلم والعمل والأمر والنّهي، جدّد المذهب بعد أن أخلق، أخذ العلم عن أبي أيّوب وجدليش الأمللي عن أبي سليمان داود، وفي أيّامه خضع له كلّ مخالف لمن كان قبله -في جنوب طرابلس- ودانت له الدّنيا وأعطي بسطة في العلم والمال، ووصفه بالكرم وبالاعتناء بنشر العلم، وأنّه قاوم الغازي إسحاق بن يحي الميورقي، وقد توفّي أواسط المائة السّابعة تقريبا، وقيلت فيه مراث، وأشهرها مرثيّة أبي نصر. انظر: أبو اليقظان الحاج إبراهيم، سليمان الباروني باشا في أطوار حياته، المطبعة العربيّة- الجزائر، د.ر.ط- 1376هـ/ 1956م، ص19 وما بعدها.

([3]) ينظر المرسوم: برمز: رب18، في المكتبة. وهو مؤرّخ: أوائل شهر القعدة الحرام عام 1262هـ/ 1846م، وتجديدا لأمر مثله صدر في 1254هـ/ 1839م.

([4]) لمزيد تصوّر عن هذا الوجود، ينظر: آثار البارونيين في المكتبة، (في الملاحق).