منشورات المكتبة
- تاريخ النشر : 21-05-2024
الصّحفي إبن الجزيرة لطفي الجريري رائد الصّحافة الجهويّة
الصّحفي إبن الجزيرة لطفي الجريري رائد الصّحافة الجهويّة
إعداد وتقديم: سعيد بن يوسف الباروني
عضو الهيئة المديرة لجمعيّة صيانة جزيرة جربة باحث في التّراث وحافظ المكتبة البارونيّة
على هامش ملتقى الجيلاني بن الحاج يحي في دورته الرّابعة الّذي انتظم يوم السّبت 27 أفريل 2019 بمقرّ جمعيّة صيانة جزيرة جربة تحت عنوان : الحديث عن إسهام الجربيّين في الحركة الصّحفيّة خلال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، طلب منّي المشاركة باسم أعضاء الهيئة المديرة للجمعيّة وكافّة منخرطيها في هذا الملتقى بكلمة موجزة تكريما لرائد الصّحافة الجهويّة المرحوم لطفي الجريري .
عند الحديث عن لطفي الجريري لابدّ أن نذكّر ببداية مشواره مع الصّحافة حيث كتب بقلمه الحرّ ونقده البناء بجرأة و بدون تجريح في العديد من الصّحف كمراسل إلى أن بادر بتأسيس جريدة الجزيرة لإيمانه بالصّحافة الجهويّة الّتي أنشأتها مجموعة من التّونسيّين قبله في بنزرت وسيدي بوزيد وسوسة وصفاقس ، مثله في ذلك روّاد الصّحافة الوطنيّة مع نهاية القرن العشرين الّذين لمعت أسماؤهم في عالم الصّحافة من أبناء جزيرة جربة و نذكر منهم :
1-الشّيخ سليمان الجادوي : الّذي ساهم في بعث صحافة هزليّة تونسيّة من خلال جريدته "أبو نواس" وكافح ضدّ المستعمر من خلال ما نشره في كتابه "منتخبات مرشد الأمّة " كما أصدر جريدة "المرشد" لحث التّونسيّين على المطالبة بحقوقهم والمحافظة على كرامتهم ثم صدرت جريدة "مرشد الأمّة " بعد تعطّل الصّحيفة الأولى.
2- الأستاذ محمّد بدرة : كتب مقالات صحفيّة في مختلف المجالات الأدبيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة بأسلوب بديع وبمقدرة فائقة في بلاغة التّحرير و خاصّة في جريدتي "الزّهرة " و "الزّمان".
3- الأستاذ صلاح الدّين التّلاتلي : أسّس جريدة الأمّة التّونسية في جانفي 1949 واختار لها شعار: "وحدة، عمل، استقلال" أي وحدة جميع التّونسيّين دون إقصاء لأحد وعمل فوريّ لبناء صرح الأمّة واستقلال حقيقيّ، أي تحرّر كامل من قيود الحماية. دامت هذه الصّحيفة ستّة أشهر إلى 19 جوان 1949 وعوّضها في فيفري 1951 بجريدة "استقلال" الّتي أسّسها مع المرحوم الحكيم أحمد بن ميلاد: أسبوعيّة سياسيّة للوحدة الوطنيّة. توقّفت هي أيضا في جويلية 1951.
4- الأستاذ البشير الفورتي الّذي أسّس أوّل مطبعة عصريّة في تونس و أصدر جريدة " التّقدّم" في جويلية 1907. بدأت أسبوعيّة ثمّ أصبحت يوميّة بعد عام ثمّ أصدر جريدة أسبوعيّة فكاهيّة سمّاها: "ولد البلاد".
5- الأستاذ حسين المقدّم الّذي يعتبر رائدا من روّاد الصّحافيّين الجربيّين بتونس في أواخر القرن التّاسع عشر. أصدر أوّل جريدة عربيّة بتونس بعد "الرّائد الرّسميّ" سمّاها: "نتائج الأخبار" الّتي ظهر عددها الأوّل في 6 جانفي 1888 وكان شعارها: "أطلب العلم من المهد الى اللّحد".
نقف اليوم بمناسبة مرور سنة وثلاثة أشهر إلّا أربعة أيّام بعد وفاة المرحوم لطفي الجريري لنكرّمه و لنبكيه بقلوبنا قبل أن تبكيه عيوننا . لا نبكي من أجل الموت الّذي غيّبه عنّا إلى الأبد فالموت حقّ ولكن نبكي الخسارة العظمى الّتي أصابت إعلامنا الجهويّ ممثّلا في جريدة الجزيرة الّتي تحتفل بمرور تسعة وثلاثين عاما على تأسيسها حيث جازف لطفي الجريري بإصدار أوّل عدد لها في 12 جوان 1980 بعد حصوله على رخصة منحه إيّاها الأستاذ محمّد كربول المدير العام للشّؤون السّياسيّة بوزارة الدّاخليّة وقتئذ. تواصل صدورها رغم الصّعوبات إلى شهر ديسمبر2017 بعددها رقم 317 الّذي وشّحه مؤسّسها قبل وفاته رحمة الله عليه بمقال مطوّل حول جولته في ربوع الشّمال الغربيّ للاتّصال بمشتركي جريدة الجزيرة من أصول جربيّة كانت جريدة الجزيرة همزة الوصل بينهم وبين ما يحدث في جزيرتهم الّتي غابوا عنها طلبا للرّزق.
بهذه المناسبة ، رغبت في الحديث عن بعض الذّكريات الّتي جمعتني بلطفي الجريري ضمن أسرة هيئة التّحرير لجريدة الجزيرة وإن كنت لا أستطيع في هذا الحيّز الزّمنيّ القصير أن أتي عليها جميعا فهي ذكريات طويلة ولكن وفاء لروحه وتخليدا لذكراه وتكريما له سأقف عند البعض منها.
التزمت بتغطية نشاط المكتب المحلّي للمصائف والجولات ( المنظّمة الوطنيّة للطّفولة التّونسيّة) و تمّ نشره في العدد السّابع الصّادر في شهر جوان1981 في ركن الأنشطة الشّبابيّة. أمّا البداية الفعليّة الّتي لا أنساها فكانت يوم هاتفني لطفي الجريري ودعاني لاحتساء قهوة بمكتبه ذات يوم من شهر أفريل 1983. كان اللّقاء عفويّا بحكم معرفتنا ببعضنا حيث نسكن في نفس الحيّ. تحدّثنا عن جريدة الجزيرة وعن رغبته في أن أكون ضمن أسرة التّحرير فلبيّت الدعوة دون أدنى تردّد . كيف لا وأنا المتتبّع لما يكتبه من مقالات شيّقة وتدخّلات رشيقة في مختلف النّدوات والملتقيات الّتي تنتظم بالجزيرة.
بدأت مشواري معه بإجراء حوار مع السّيّد عزّوز غربال رئيس الجامعة التّونسيّة للنّزل للحديث حول مستقبل جزيرة جربة السّياحيّ وعلاقته بالسّياحة الصّحراويّة. صدر ذلك الحوار بالعدد 16 لشهر أفريل 1983 بالصّفحة 14. ثمّ كانت لي مناسبة أخرى لإجراء تحقيق حول نشاط جمعيّة صيانة جزيرة جربة بعد ثماني سنوات من تأسيسها مع رئيسها السّيّد فريد القاضي والّذي صدر بنفس العدد بالصّفحة 15.
بمجرد انضمامي إلى الهيئة المديرة تمّ التّعاقد بين جريدة الجزيرة وجمعيّة الصّيانة بتخصيص صفحة كاملة أشرفت عليها تحت عنوان "عالم الصّيانة" لنشر أنشطة الجمعيّة والتّعريف بمشاريعها التّنمويّة وإعلام منخرطيها مقابل دعم ماليّ شهريّ للجريدة. تواصلت التّجربة لعدّة سنوات. وبداية من العدد 18 الصّادر في شهر جويلية 1983 شرّفني لطفي الجريري بإعداد الصّفحة الدّينيّة الّتي كان يؤثّثها شقيقه الشّيخ الجيلاني ثمّ بتحرير ركن " شخصيّة من التّاريخ " قدّمت فيه بعض تراجم علماء الجزيرة و مشائخها.
كان لطفي الجريري- رحمه الله - إسما على مسمّى: لطيفا في تعامله مع كلّ العاملين في الجريدة وجميع الأصدقاء. كان كثيرا ما يعقد جلسات مع أسرة التّحرير ويشيد بما يقدّمه المحرّرون المتعاونون معه لسنوات تطوّعا من أجل تقديم مادّة إعلاميّة تساهم في إنارة الرّأي العام وتلفت نظر المسؤولين الى مواقع الخلل. كان يقول " الجزيرة جريدتكم": فتحها لكلّ من عشق جربة ، كتبت عديد الأقلام وعبّرت عن ذاتها وعرفها القرّاء وأوجد لها مكانا وسط الزخم الإعلاميّ للصّحافة المكتوبة.
كانت جريدة الجزيرة من الصّحف القلائل الّتي صمدت رغم قلّة الدّعم المادّيّ واستمرّت ناشرة للكلمة الطّيّبة وللمعلومة المفيدة عن كنوز تاريخيّة وتراثيّة وحضاريّة لهذه الجزيرة حتى غدت مرجعا علميّا وثقافيّا وتاريخيّا لفترة امتدّت قرابة أربعين سنة. لمست من لطفي الجريري حرصه على انتظام صدور جريدته في موعدها ووصولها إلى قرّائها ومشتركيها في جميع مدن الجمهوريّة وخارج أرض الوطن للجالية الجربيّة الّتي تواكب أخبار جزيرتهم عبر صفحات الجريدة بأركانها المتنوّعة. استجاب لجميع رغبات القرّاء بإحداث صفحة الشّؤون المحلّيّة وبها أخبار أحياء وحوم معتمديّات جربة الثّلاث وأخر المستجدّات الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة وصفحة الآراء والمواقف وصفحة التّاريخ والتّوثيق وصفحة الصّيانة وأخبار البلديّات وصفحة الأصداء الجهويّة لمختلف معتمديّات ولاية مدنين.
كان الصّحفيّ لطفي الجريري حريصا على تلبية رغبات قرّاء الجريدة بمختلف أعمارهم ومشاربهم بإفراد صفحتين لأعلام الجزيرة المعاصرين ممّن سمّاهم " من أهل جربة الطيّبين " من الرّجال والنّساء الّذين شرّفوا الجزيرة خاصّة وتونس عامّة في العديد من المواقع المتميّزة و المحافل الكبرى بذكر تجاربهم وقصص نجاحاتهم. كان رصيد جريدة الجزيرة غنيّا بسير المبدعين والمثقّفين والفاعلين في مختلف الميادين من أبناء جربة.
اكتشفت عند لطفي الجريري حبّ المغامرة والتّحدّي. كان إيمانه كبيرا بأنّ رسالة الصّحافة عنصر مهمّ في خدمة الانسان و معالجة هموم مواطن اليوم و الغد. كان طموحه أن تسهم جريدته في مسار الإعلام الجماهيريّ و في توحيد أصوات الصّحافة المنادية بتحرير عقل الإنسان من ربقة التّردّي. جعل المرحوم من جريدة الجزيرة مصدرا للبحث وللدّراسة لجميع المهتمّين بشأن جربة بما تميّزت به مقالاتها من جديّة وموضوعيّة عكست مظاهر حياة الجزيرة والجنوب الشّرقيّ عموما وما يحدث على المستوى السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ واثّقافيّ وطنيّا. كان رحمه الله يتوق إلى أن تنال جريدة الجزيرة قبول القرّاء ورضاهم فيدعوهم إلى أن لا يقفوا موقف المحايد بل يطلب منهم أن يقتربوا من جريدتهم كأحسن ما يكون القرب ليسهموا ولو بكلمة حتّى تخطو الجزيرة نحو التّميّز، وكثيرا ما يعد قرّاءه بأن يظلّ هو صوتهم الصّاعد وفكرهم الفاعل . استطاع لطفي الجريري بكياسته وأريحيّته الفكريّة والاجتماعيّة أن يحرّك في محيطه سواكن كثيرة ّ: فجّر أقلاما كانت كتومة دفعها الى حلبة الكتابة الصّريحة وسرعان ما استعذبت أصحابها الأمر فاستمرّوا على نفس الخطّ التّحريريّ . يحسب للطفي الجريري نجاحه في استدراج الأديب الهزلي الرّاحل الجيلاني بن الحاج يحي إلى تأثيث ركن قارّ في الجريدة سمّاه " مع الظّرفاء" يروّح من خلاله على القرّاء ويؤمّن لهم فسحة من الانشراح والطّرافة .
أختم حديثي عن صديقي لطفي الجريري ببعض ما ذكره الأستاذ الحسين الطّبجي في مقال صحفيّ بمناسبة صدور عدد خاصّ لأربعينيّة المرحوم الصّادر في شهر مارس 2018 بالصّفحة الثّانية تحت عنوان" مصابنا جليل والعزاء جميل" ورد فيه ما يلي:
1- " أهدى الفقيد لأهله وأحبابه وأهل ودّه و إخوان صفائه بناءا فكريّا شامخا وصرحا إعلاميّا شاهقا. نشأ لديه ذات يوم من أيّام الشّباب حلم ثم استوى شيئا فشيئا مشروعا إعلاميّا رائدا واستقام لاحقا وقد اشتدّ عوده وأثمر إنجازا لافتا متفرّدا في ذروة الاكتمال والمجد وقد أينع وطاب وفاح أريجه منارة في دنيا الصّحافة ومعلما... سمّاها الجزيرة تيمّنا وتبرّكا بالأرض الطيّبة الّتي أسّست من أجلها ولها واستمدّت من رصيدها مقامها مبرّرا لوجودها ومعينا لعطائها وضمانا لبقائها وديمومتها."
2- " نأى المرحوم بجريدته عن التّوجّهات المتدنّية والأساليب التّعيسة واختار المسلك الصّعب ولم يبع يوما ما الغالي بالرّخيص ولم يبدل الرّفيع بالهابط وتشبّث في عناد بهذا الخطّ واستمات في الدّفاع عن هذا التّوجّه"
ونحن نكرّم فقيدنا لطفي الجريري رحمه الله ، حريّ بجمعيّة صيانة جزيرة جربة الّتي واكبت مسيرة هذا الصّحفي الفذّ وتعاونت معه عبر صفحات جريدته لإبلاغ صوتها إلى كافّة الجربيّين أن تولي الاهتمام الجدير بجمع ما خطّه من لآلئ في كتاب يخلّد شخصيّة متيّمة بحبّ الجزيرة والجريدة بعد استشارة عائلته وفاءا لذكراه.
في الختام أتوجّه بالشّكر الجزيل للأخ محمّد المنصف بن جمعة الّذي تسلّم إدارة الجريدة بعد وفاة مؤسّسها لتواصل رسالتها وتبقى منارة مضيئة في سماء جزيرة الأحلام جربة الحبلى برجالها ونسائها كما عهدناها عبر العصور.
إعداد وتقديم: سعيد بن يوسف الباروني
عضو الهيئة المديرة لجمعيّة صيانة جزيرة جربة باحث في التّراث وحافظ المكتبة البارونيّة
على هامش ملتقى الجيلاني بن الحاج يحي في دورته الرّابعة الّذي انتظم يوم السّبت 27 أفريل 2019 بمقرّ جمعيّة صيانة جزيرة جربة تحت عنوان : الحديث عن إسهام الجربيّين في الحركة الصّحفيّة خلال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، طلب منّي المشاركة باسم أعضاء الهيئة المديرة للجمعيّة وكافّة منخرطيها في هذا الملتقى بكلمة موجزة تكريما لرائد الصّحافة الجهويّة المرحوم لطفي الجريري .
عند الحديث عن لطفي الجريري لابدّ أن نذكّر ببداية مشواره مع الصّحافة حيث كتب بقلمه الحرّ ونقده البناء بجرأة و بدون تجريح في العديد من الصّحف كمراسل إلى أن بادر بتأسيس جريدة الجزيرة لإيمانه بالصّحافة الجهويّة الّتي أنشأتها مجموعة من التّونسيّين قبله في بنزرت وسيدي بوزيد وسوسة وصفاقس ، مثله في ذلك روّاد الصّحافة الوطنيّة مع نهاية القرن العشرين الّذين لمعت أسماؤهم في عالم الصّحافة من أبناء جزيرة جربة و نذكر منهم :
1-الشّيخ سليمان الجادوي : الّذي ساهم في بعث صحافة هزليّة تونسيّة من خلال جريدته "أبو نواس" وكافح ضدّ المستعمر من خلال ما نشره في كتابه "منتخبات مرشد الأمّة " كما أصدر جريدة "المرشد" لحث التّونسيّين على المطالبة بحقوقهم والمحافظة على كرامتهم ثم صدرت جريدة "مرشد الأمّة " بعد تعطّل الصّحيفة الأولى.
2- الأستاذ محمّد بدرة : كتب مقالات صحفيّة في مختلف المجالات الأدبيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة بأسلوب بديع وبمقدرة فائقة في بلاغة التّحرير و خاصّة في جريدتي "الزّهرة " و "الزّمان".
3- الأستاذ صلاح الدّين التّلاتلي : أسّس جريدة الأمّة التّونسية في جانفي 1949 واختار لها شعار: "وحدة، عمل، استقلال" أي وحدة جميع التّونسيّين دون إقصاء لأحد وعمل فوريّ لبناء صرح الأمّة واستقلال حقيقيّ، أي تحرّر كامل من قيود الحماية. دامت هذه الصّحيفة ستّة أشهر إلى 19 جوان 1949 وعوّضها في فيفري 1951 بجريدة "استقلال" الّتي أسّسها مع المرحوم الحكيم أحمد بن ميلاد: أسبوعيّة سياسيّة للوحدة الوطنيّة. توقّفت هي أيضا في جويلية 1951.
4- الأستاذ البشير الفورتي الّذي أسّس أوّل مطبعة عصريّة في تونس و أصدر جريدة " التّقدّم" في جويلية 1907. بدأت أسبوعيّة ثمّ أصبحت يوميّة بعد عام ثمّ أصدر جريدة أسبوعيّة فكاهيّة سمّاها: "ولد البلاد".
5- الأستاذ حسين المقدّم الّذي يعتبر رائدا من روّاد الصّحافيّين الجربيّين بتونس في أواخر القرن التّاسع عشر. أصدر أوّل جريدة عربيّة بتونس بعد "الرّائد الرّسميّ" سمّاها: "نتائج الأخبار" الّتي ظهر عددها الأوّل في 6 جانفي 1888 وكان شعارها: "أطلب العلم من المهد الى اللّحد".
نقف اليوم بمناسبة مرور سنة وثلاثة أشهر إلّا أربعة أيّام بعد وفاة المرحوم لطفي الجريري لنكرّمه و لنبكيه بقلوبنا قبل أن تبكيه عيوننا . لا نبكي من أجل الموت الّذي غيّبه عنّا إلى الأبد فالموت حقّ ولكن نبكي الخسارة العظمى الّتي أصابت إعلامنا الجهويّ ممثّلا في جريدة الجزيرة الّتي تحتفل بمرور تسعة وثلاثين عاما على تأسيسها حيث جازف لطفي الجريري بإصدار أوّل عدد لها في 12 جوان 1980 بعد حصوله على رخصة منحه إيّاها الأستاذ محمّد كربول المدير العام للشّؤون السّياسيّة بوزارة الدّاخليّة وقتئذ. تواصل صدورها رغم الصّعوبات إلى شهر ديسمبر2017 بعددها رقم 317 الّذي وشّحه مؤسّسها قبل وفاته رحمة الله عليه بمقال مطوّل حول جولته في ربوع الشّمال الغربيّ للاتّصال بمشتركي جريدة الجزيرة من أصول جربيّة كانت جريدة الجزيرة همزة الوصل بينهم وبين ما يحدث في جزيرتهم الّتي غابوا عنها طلبا للرّزق.
بهذه المناسبة ، رغبت في الحديث عن بعض الذّكريات الّتي جمعتني بلطفي الجريري ضمن أسرة هيئة التّحرير لجريدة الجزيرة وإن كنت لا أستطيع في هذا الحيّز الزّمنيّ القصير أن أتي عليها جميعا فهي ذكريات طويلة ولكن وفاء لروحه وتخليدا لذكراه وتكريما له سأقف عند البعض منها.
التزمت بتغطية نشاط المكتب المحلّي للمصائف والجولات ( المنظّمة الوطنيّة للطّفولة التّونسيّة) و تمّ نشره في العدد السّابع الصّادر في شهر جوان1981 في ركن الأنشطة الشّبابيّة. أمّا البداية الفعليّة الّتي لا أنساها فكانت يوم هاتفني لطفي الجريري ودعاني لاحتساء قهوة بمكتبه ذات يوم من شهر أفريل 1983. كان اللّقاء عفويّا بحكم معرفتنا ببعضنا حيث نسكن في نفس الحيّ. تحدّثنا عن جريدة الجزيرة وعن رغبته في أن أكون ضمن أسرة التّحرير فلبيّت الدعوة دون أدنى تردّد . كيف لا وأنا المتتبّع لما يكتبه من مقالات شيّقة وتدخّلات رشيقة في مختلف النّدوات والملتقيات الّتي تنتظم بالجزيرة.
بدأت مشواري معه بإجراء حوار مع السّيّد عزّوز غربال رئيس الجامعة التّونسيّة للنّزل للحديث حول مستقبل جزيرة جربة السّياحيّ وعلاقته بالسّياحة الصّحراويّة. صدر ذلك الحوار بالعدد 16 لشهر أفريل 1983 بالصّفحة 14. ثمّ كانت لي مناسبة أخرى لإجراء تحقيق حول نشاط جمعيّة صيانة جزيرة جربة بعد ثماني سنوات من تأسيسها مع رئيسها السّيّد فريد القاضي والّذي صدر بنفس العدد بالصّفحة 15.
بمجرد انضمامي إلى الهيئة المديرة تمّ التّعاقد بين جريدة الجزيرة وجمعيّة الصّيانة بتخصيص صفحة كاملة أشرفت عليها تحت عنوان "عالم الصّيانة" لنشر أنشطة الجمعيّة والتّعريف بمشاريعها التّنمويّة وإعلام منخرطيها مقابل دعم ماليّ شهريّ للجريدة. تواصلت التّجربة لعدّة سنوات. وبداية من العدد 18 الصّادر في شهر جويلية 1983 شرّفني لطفي الجريري بإعداد الصّفحة الدّينيّة الّتي كان يؤثّثها شقيقه الشّيخ الجيلاني ثمّ بتحرير ركن " شخصيّة من التّاريخ " قدّمت فيه بعض تراجم علماء الجزيرة و مشائخها.
كان لطفي الجريري- رحمه الله - إسما على مسمّى: لطيفا في تعامله مع كلّ العاملين في الجريدة وجميع الأصدقاء. كان كثيرا ما يعقد جلسات مع أسرة التّحرير ويشيد بما يقدّمه المحرّرون المتعاونون معه لسنوات تطوّعا من أجل تقديم مادّة إعلاميّة تساهم في إنارة الرّأي العام وتلفت نظر المسؤولين الى مواقع الخلل. كان يقول " الجزيرة جريدتكم": فتحها لكلّ من عشق جربة ، كتبت عديد الأقلام وعبّرت عن ذاتها وعرفها القرّاء وأوجد لها مكانا وسط الزخم الإعلاميّ للصّحافة المكتوبة.
كانت جريدة الجزيرة من الصّحف القلائل الّتي صمدت رغم قلّة الدّعم المادّيّ واستمرّت ناشرة للكلمة الطّيّبة وللمعلومة المفيدة عن كنوز تاريخيّة وتراثيّة وحضاريّة لهذه الجزيرة حتى غدت مرجعا علميّا وثقافيّا وتاريخيّا لفترة امتدّت قرابة أربعين سنة. لمست من لطفي الجريري حرصه على انتظام صدور جريدته في موعدها ووصولها إلى قرّائها ومشتركيها في جميع مدن الجمهوريّة وخارج أرض الوطن للجالية الجربيّة الّتي تواكب أخبار جزيرتهم عبر صفحات الجريدة بأركانها المتنوّعة. استجاب لجميع رغبات القرّاء بإحداث صفحة الشّؤون المحلّيّة وبها أخبار أحياء وحوم معتمديّات جربة الثّلاث وأخر المستجدّات الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة وصفحة الآراء والمواقف وصفحة التّاريخ والتّوثيق وصفحة الصّيانة وأخبار البلديّات وصفحة الأصداء الجهويّة لمختلف معتمديّات ولاية مدنين.
كان الصّحفيّ لطفي الجريري حريصا على تلبية رغبات قرّاء الجريدة بمختلف أعمارهم ومشاربهم بإفراد صفحتين لأعلام الجزيرة المعاصرين ممّن سمّاهم " من أهل جربة الطيّبين " من الرّجال والنّساء الّذين شرّفوا الجزيرة خاصّة وتونس عامّة في العديد من المواقع المتميّزة و المحافل الكبرى بذكر تجاربهم وقصص نجاحاتهم. كان رصيد جريدة الجزيرة غنيّا بسير المبدعين والمثقّفين والفاعلين في مختلف الميادين من أبناء جربة.
اكتشفت عند لطفي الجريري حبّ المغامرة والتّحدّي. كان إيمانه كبيرا بأنّ رسالة الصّحافة عنصر مهمّ في خدمة الانسان و معالجة هموم مواطن اليوم و الغد. كان طموحه أن تسهم جريدته في مسار الإعلام الجماهيريّ و في توحيد أصوات الصّحافة المنادية بتحرير عقل الإنسان من ربقة التّردّي. جعل المرحوم من جريدة الجزيرة مصدرا للبحث وللدّراسة لجميع المهتمّين بشأن جربة بما تميّزت به مقالاتها من جديّة وموضوعيّة عكست مظاهر حياة الجزيرة والجنوب الشّرقيّ عموما وما يحدث على المستوى السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ واثّقافيّ وطنيّا. كان رحمه الله يتوق إلى أن تنال جريدة الجزيرة قبول القرّاء ورضاهم فيدعوهم إلى أن لا يقفوا موقف المحايد بل يطلب منهم أن يقتربوا من جريدتهم كأحسن ما يكون القرب ليسهموا ولو بكلمة حتّى تخطو الجزيرة نحو التّميّز، وكثيرا ما يعد قرّاءه بأن يظلّ هو صوتهم الصّاعد وفكرهم الفاعل . استطاع لطفي الجريري بكياسته وأريحيّته الفكريّة والاجتماعيّة أن يحرّك في محيطه سواكن كثيرة ّ: فجّر أقلاما كانت كتومة دفعها الى حلبة الكتابة الصّريحة وسرعان ما استعذبت أصحابها الأمر فاستمرّوا على نفس الخطّ التّحريريّ . يحسب للطفي الجريري نجاحه في استدراج الأديب الهزلي الرّاحل الجيلاني بن الحاج يحي إلى تأثيث ركن قارّ في الجريدة سمّاه " مع الظّرفاء" يروّح من خلاله على القرّاء ويؤمّن لهم فسحة من الانشراح والطّرافة .
أختم حديثي عن صديقي لطفي الجريري ببعض ما ذكره الأستاذ الحسين الطّبجي في مقال صحفيّ بمناسبة صدور عدد خاصّ لأربعينيّة المرحوم الصّادر في شهر مارس 2018 بالصّفحة الثّانية تحت عنوان" مصابنا جليل والعزاء جميل" ورد فيه ما يلي:
1- " أهدى الفقيد لأهله وأحبابه وأهل ودّه و إخوان صفائه بناءا فكريّا شامخا وصرحا إعلاميّا شاهقا. نشأ لديه ذات يوم من أيّام الشّباب حلم ثم استوى شيئا فشيئا مشروعا إعلاميّا رائدا واستقام لاحقا وقد اشتدّ عوده وأثمر إنجازا لافتا متفرّدا في ذروة الاكتمال والمجد وقد أينع وطاب وفاح أريجه منارة في دنيا الصّحافة ومعلما... سمّاها الجزيرة تيمّنا وتبرّكا بالأرض الطيّبة الّتي أسّست من أجلها ولها واستمدّت من رصيدها مقامها مبرّرا لوجودها ومعينا لعطائها وضمانا لبقائها وديمومتها."
2- " نأى المرحوم بجريدته عن التّوجّهات المتدنّية والأساليب التّعيسة واختار المسلك الصّعب ولم يبع يوما ما الغالي بالرّخيص ولم يبدل الرّفيع بالهابط وتشبّث في عناد بهذا الخطّ واستمات في الدّفاع عن هذا التّوجّه"
ونحن نكرّم فقيدنا لطفي الجريري رحمه الله ، حريّ بجمعيّة صيانة جزيرة جربة الّتي واكبت مسيرة هذا الصّحفي الفذّ وتعاونت معه عبر صفحات جريدته لإبلاغ صوتها إلى كافّة الجربيّين أن تولي الاهتمام الجدير بجمع ما خطّه من لآلئ في كتاب يخلّد شخصيّة متيّمة بحبّ الجزيرة والجريدة بعد استشارة عائلته وفاءا لذكراه.
في الختام أتوجّه بالشّكر الجزيل للأخ محمّد المنصف بن جمعة الّذي تسلّم إدارة الجريدة بعد وفاة مؤسّسها لتواصل رسالتها وتبقى منارة مضيئة في سماء جزيرة الأحلام جربة الحبلى برجالها ونسائها كما عهدناها عبر العصور.
مقالات ذات علاقة
الذكاء الاصطناعي في خدمة التراث المخطوط
"الذكاء الاصطناعي في خدمة التراث المخطوط" أمسية ثقافية مميزة للتعريف بمشروعين رائدين يستخدمان قوة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للحفاظ على تراثنا المخطوط وتعزيز الوصول إليه.
المزيد