مقاربة سنة ميلاده وبواكير نشأته وتكوينه

لا ذكر لسنة ميلاده في المصادر المترجمة له، ولا حتّى محاولة مقاربتها، ولا حديث فيها أيضا عن هُويّة والده، وعندما نرجع إلى ما تركه من تقاييد في مكتبته؛ فإنّ أقدم تاريخ نسخ له، هو الأربعاء جمادى الأولى1205هـ/ 1791م، لشرح النّونيّة -قد سبق ذكرها-، وهي للشّيخ قاسم الويراني الأجيمي. واضح أنّه خطّ شبابه، وسيشهد تطوّراً بعد ذلك، وإذا قدّرنا -على أقلّ تقدير- أنّ ذلك النّسخ كان وهو ابن 17 عاما مثلا؛ فإنّ ميلاده ربّما يكون حوالي سنة 1188ه/ 1775م، وهذا أيضا باعتبار أنّ وفاته كانت سنة 1281ه/ 1865م([1])، ولا تذكر المصادر أنّه بلغ المائة، ونستبعد ما قيل إنّه عاش في أوّل القرن الثّالث عشر الهجريّ([2])، في إشارة إلى ميلاده، بل إنّ الأقرب إلى الواقع، مع نهايات العقد التّاسع من القرن الثّاني عشر الهجريّ/ الثّامن عشر الميلادي.

ويبقى الوالد مجهولاً من حيث الهويّة، أمّا جدّه فهو يعقوب بن علي البروني؛ فقد كان ينسخ في وكالة الجاموس، في شعبان من سنة 1179هـ/ 1766م، كتاب أصول الدّين، لتبغورين بن عيسى بن داود الملشوطي([3]). ولجدِّ أبيه المسمّى: علي بن أبو بكر بن عيسى بن يحي بن عيسى البروني، ترميمٌ لكتاب قواعد الإسلام، الّذي يعود نسخه إلى القرن العاشر تقريباً، وذلك ضحوة الجمعة 4 شوال 1094هـ/ 1683م، وفي النّسخة نفسها، سجّل: «الحمد لله توالد المولود المبارك محمد بن علي بن أبي بكر ليلة الاثنين 2 ذي الحجّة 1094هـ أنبته الله..»([4])، كما أنّ والد هذا الجدّ (أبو بكر) ورد ضمن الأعلام في رسالة إبراهيم بن عبد الله الشّمّاخي النّفوسيّ المذكورة آنفا.

وللشّيخ سعيد أخ باسم يحي، ففي نسخة دوَّن تقييد ميلاد ابنٍ ذكَرٍ لهذا الأخ، وذلك يوم الإثنين 29 جمادى الأولى 1233هـ/ 1818م([5])، وقد نسخ له سعيد بن أبي القاسم بن إبراهيم الجادوي النّفوسي، كتاب القسمة وأصول الأراضين، في رمضان 1227هـ/ 1812م، فقال: «وقد نسخته للمكرّم الفاضل الفقيه الحاج النّاسك أبي زكرياء يحي بن عيسى البروني»([6]).

والمصادر -كما سبق- تذكر كلاماً عامّا عن نشأة الشّيخ سعيد الأولى في جبل نفوسة- جادو([7]) وتغفل ذكر شيوخه هناك، وهي مختلفة بعد ذلك؛ فهل سافر بعد ذلك إلى جربة أم مباشرة إلى مصر؟ ([8]).

وعن نشأته الأولى فنتصوّر أنّه كغيره؛ تتلمذ في كُتّاب قريته إلى حين تعلّمه للمبادئ اللّغوية والشّرعية وبلوغه سنّ الرّشد والتّكليف، ثمّ فكّر كغيره في الرّحيل إلى حيث العلم ومشايخه، وهذا الأمر يتأكّد مع العائلات المعروفة بالعلم والتعلّم كالبارونيين، ولعلّ أقرب حاضرة علميّة إلى قريته هي جزيرة جربة، وبالتّحديد مدرسة الجامع الكبير، الّتي تعيش أزهى أيّامها برئاسة الشّيخ العلاّمة محمّد بن يوسف المصعبي، وفي تقديرنا أنّ الفتى سعيد قد يكون أدرك ما يقرب من أربع سنوات من رئاسته قرباً منه وتتلمذاً عليه؛ وهذا على اعتبار أن يكون قد جلس إلى هذا الشّيخ وهو ابن خمسة عشر سنة، فيكون ذلك سنة 1203هـ/ 1789م، إلى حين وفاة الشّيخ محمّد المصعبي -رحمه الله- سنة 1207هـ/ 1793م.

والّذي يحملنا على هذا التقدير -إضافة إلى ما سبق ذكره- هو أنّه يذكر الشّيخ محمّد المصعبي في مواضع كثيرة، بما يشعر أنّه كان شيخاً له، فمن ذلك قوله عقب نقل مسائل عديدة عنه: «انتهى من خطّ سيدي ونور مذهبي شيخي محمّد بن يوسف المصعبي»([9]). ثمّ إنّنا نحتمل أيضا أنّه قد تتلمذ على خليفة الشّيخ محمّد المصعبي في رئاسة المسجد الكبير الشّيخ سليمان بن محمّد الشّمّاخي، ما يقرب من خمس سنوات، وهذا قبل سفره إلى مصر القاهرة سنة 1213هـ/ 1798م -كما سيأتي- إلاّ أننا لم نعثر على أثرٍ لهذا الشّيخ في المكتبة البارونيّة، لكن وجدنا ما يفيد أّنه تتلمذ أيضا على يد الشّيخ عيسى بن أبي القاسم الباروني، من حيث إنّه نقل أجوبة له ومسائل وناقشه في بعضها، وتحدّث إليه حديث التّلميذ مع شيخه، ومن ذلك قوله: «هكذا وُجد بخطّ شيخنا عيسى بن أبي القاسم نفع الله به آمين... حفظه الله»([10]).

وعلى كلّ، فهذا المسلك في طلب العلم قد سلكه غيره أيضا، أي طلب العلم في جربة أوّلا، ثمّ في مصر؛ فمثلا قد ذكر ابن تعاريت منهم الشّيخ... يونس بن الحاج عمر الفلاّح. أخذ العلم أوّلا بمدرسة الجامع الكبير، ثم سافر إلى مصر، ولازم مدرسة ابن طولون الإباضيّة، وأخذ على أساتذتها وحضر دروس الأزهر([11]).

 

([1]) هذا هو الصّحيح كما سنثبت ذلك في محلّه، والمصادر تذكر أنّه توفّي سنة 1284 هـ. ينظر: تاريخ جزيرة جربة ومدارسها العلميّة (مرجع سابق)، ص155،و جزيرة جربة في موكب التاريخ (مرجع سابق)، ص110.

([2]) جزيرة جربة في موكب التاريخ، ص111.

([3]) أصول الدّين، لتبغورين بن عيسى بن داوود الملشوطي، برقم: 54 في المكتبة، ص40.

([4]) ينظر التّقييد: في نسخة من قواعد الإسلام، برقم: 133 في المكتبة.

([5]) ينظر التّقييد: في ق1 من نسخة من جواب يحي بن يعقوب اليزمرتي، برقم:235 في المكتبة.

([6]) ينظر: خاتمة النّاسخ، في كتاب القسمة وأصول الأراضين، برقم:115 في المكتبة.

([7]) ينظر: جزيرة جربة في موكب التّاريخ، ص111.

([8]) ينظر: المرجع نفسه، وكذا تاريخ جزيرة جربة ومدارسها العلميّة، ص154.

([9]) ينظر: الأوراق الأربعة الأولى، قبل بدايةكتاب جواهر المنتقاة في إتمام ما أخل به كتاب الطبقات، برقم: 72 في المكتبة.

([10]) مجموع أسئلة وأجوبة سنّية لأجلّة مشايخ الوهبيّة، بخطّ سعيد بن عيسى الباروني، برقم: 247 في المكتبة، ص12، كما نقل أجوبة ومسائل من خطّ شيخه عيسى بن أبي القاسم، ينظر: مجموع فوائد ومسائل، برقم: 255 في المكتبة.

([11]) رسالة في تاريخ جربة (مصدر سابق)، ص34، ينظر مثل ذلك في ترجمة قاسم بن سليمان بن محمّد الشّمّاخي، ص117.